سورة يوسف - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يوسف)


        


{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: وجه النظم أن يقال: بين تعالى أن إخوته لما أساؤا إليه، ثم إنه صبر على تلك الشدائد والمحن مكنه الله تعالى في الاْرض، ثم لما بلغ أشده آتاه الله الحكم والعلم، والمقصود بيان أن جميع ما فاز به من النعم كان كالجزاء على صبره على تلك المحن، ومن الناس من قال: إن النبوة جزاء على الأعمال الحسنة، ومنهم من قال: إن من اجتهد وصبر على بلاء الله تعالى وشكر نعماء الله تعالى وجد منصب الرسالة.
واحتجوا على صحة قولهم: بأنه تعالى لما ذكر صبر يوسف على تلك المحن ذكر أنه أعطاه النبوة والرسالة.
ثم قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين} وهذا يدل على أن كل من أتى بالطاعات الحسنة التي أتى بها يوسف، فإن الله يعطيه تلك المناصب، وهذا بعيد لاتفاق العلماء على أن النبوة غير مكتسبة.
واعلم أن من قال: إن يوسف ما كان رسولاً ولا نبياً ألبتة، وإنما كان عبداً أطاع الله تعالى فأحسن الله إليه، وهذا القول باطل بالإجماع.
وقال الحسن: إنه كان نبياً من الوقت الذي قال الله تعالى في حقه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا} [يوسف: 15] وما كان رسولاً، ثم إنه صار رسولاً من هذا الوقت أعني قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ اتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [يوسف: 22] ومنهم من قال: إنه كان رسولاً من الوقت الذي ألقى في غيابة الجب.
المسألة الثانية: قال أبو عبيدة تقول العرب بلغ فلان أشده إذا انتهى منتهاه في شبابه وقوته قبل أن يأخذ في النقصان وهذا اللفظ يستعمل في الواحد والجمع يقال بلغ أشده وبلغوا أشدهم، وقد ذكرنا تفسير الأشد في سورة الأنعام عند قوله: {حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152] وأما التفسير فروى ابن جرير عن مجاهد عن ابن عباس، ولما بلغ أشده قال ثلاثاً وثلاثين سنة، وأقول هذه الرواية شديدة الانطباق على القوانين الطبية وذلك لأن الأطباء قالوا إن الإنسان يحدث في أول الأمر ويتزايد كل يوم شيئاً فشيئاً إلى أن ينتهي إلى غاية الكمال، ثم يأخذ في التراجع والانتقاص إلى أن لا يبقى منه شيء، فكانت حالته شبيهة بحال القمر، فإنه يظهر هلالاً ضعيفاً ثم لا يزال يزداد إلى أن يصير بدراً تاماً، ثم يتراجع إلى أن ينتهي إلى العدم والمحاق.
إذا عرفت هذا فنقول: مدة دور القمر ثمانية وعشرون يوماً وكسر فإذا جعلت هذه الدورة أربعة أقسام، كان كل قسم منها سبعة أيام، فلا جرم رتبوا أحوال الأبدان على الأسابيع فالإنسان إذا ولد كان ضعيف الخلقة نحيف التركيب إلى أن يتم له سبع سنين، ثم إذا دخل في السبعة الثانية حصل فيه آثار الفهم والذكاء والقوة ثم لا يزال في الترقي إلى أن يتم له أربع عشرة سنة. فإذا دخل في السنة الخامسة عشرة دخل في الأسبوع الثالث. وهناك يكمل العقل ويبلغ إلى حد التكليف وتتحرك فيه الشهوة، ثم لا يزال يرتقي على هذه الحالة إلى أن يتم السنة الحادية والعشرين، وهناك يتم الأسبوع الثالث ويدخل في السنة الثانية والعشرين، وهذا الأسبوع آخر أسابيع النشوء والنماء، فإذا تمت السنة الثامنة والعشرون فقد تمت مدة النشوء والنماء، وينتقل الإنسان منه إلى زمان الوقوف وهو الزمان الذي يبلغ الإنسان فيه أشده، وبتمام هذا الأسبوع الخامس يحصل للإنسان خمسة وثلاثون سنة، ثم إن هذه المراتب مختلفة في الزيادة والنقصان؛ فهذا الأسبوع الخامس الذي هو أسبوع الشدة والكمال يبتدأ من السنة التاسعة والعشرين إلى الثالثة والثلاثين، وقد يمتد إلى الخامسة والثلاثين، فهذا هو الطريق المعقول في هذا الباب، والله أعلم بحقائق الأشياء.
المسألة الثالثة: في تفسير الحكم والعلم، وفيه أقوال:
القول الأول: أن الحكم والحكمة أصلهما حبس النفس عن هواها، ومنعها مما يشينها، فالمراد من الحكم الحكمة العملية، والمراد من العلم الحكمة النظرية.
وإنما قدم الحكمة العملية هنا على العملية، لأن أصحاب الرياضات يشتغلون بالحكمة العملية ثم يترقون منها إلى الحكمة النظرية.
وأما أصحاب الأفكار العقلية والأنظار الروحانية فإنهم يصلون إلى الحكمة النظرية أولاً، ثم ينزلون منها إلى الحكمة العملية، وطريقة يوسف عليه السلام هو الأول، لأنه صبر على البلاء والمحنة ففتح الله عليه أبواب المكاشفات، فلهذا السبب قال: {اتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا}.
القول الثاني: الحكم هو النبوة، لأن النبي يكون حاكماً على الخلق، والعلم علم الدين.
والقول الثالث: يحتمل أن يكون المراد من الحكم صيرورة نفسه المطمئنة حاكمة على نفسه الأمارة بالسوء مستعلية عليها قاهرة لها ومتى صارت القوة الشهوانية والغضبية مقهورة ضعيفة فاضت الأنوار القدسية والأضواء الإلهية من عالم القدس على جوهر النفس وتحقيق القول في هذا الباب أن جوهر النفس الناطقة خلقت قابلة للمعارف الكلية والأنوار العقلية، إلا أنه قد ثبت عندنا بحسب البراهين العقلية وبحسب المكاشفات العلوية أن جواهر الأرواح البشرية مختلفة بالماهيات فمنها ذكية وبليدة ومنها حرة ونذلة ومنها شريفة وخسيسة، ومنها عظيمة الميل إلى عالم الروحانيات وعظيمة الرغبة في الجسمانيات فهذه الأقسام كثيرة وكل واحد من هذه المقامات قابل للأشد والأضعف والأكمل والأنقص فإذا اتفق أن كان جوهر النفس الناطقة جوهراً مشرقاً شريفاً شديد الاستعداد لقبول الأضواء العقلية واللوائح الإلهية، فهذه النفس في حال الصغر لا يظهر منها هذه الأحوال، لأن النفس الناطقة إنما تقوى على أفعالها بواسطة استعمال الآلات الجسدانية وهذه الآلات في حال الصغر تكون الرطوبات مستولية عليها، فإذا كبر الإنسان واستولت الحرارة الغريزية على البدن نضجت تلك الرطوبات وقلت واعتدلت، فصارت تلك الآلات البدنية صالحة لأن تستعملها النفس الإنسانية وإذا كانت النفس في أصل جوهرها شريفة فعند كمال الآلات البدنية تكمل معارفها وتقوى أنوارها ويعظم لمعان الأضواء فيها، فقوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} إشارة إلى اعتدال الآلات البدنية، وقوله: {اتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} إشارة إلى استكمال النفس في قوتها العملية والنظرية، والله أعلم.


{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)}
اعلم أن يوسف عليه السلام كان في غاية الجمال والحسن، فلما رأته المرأة طمعت فيه ويقال أيضاً إن زوجها كان عاجزاً يقال: راود فلان جاريته عن نفسها وراودته هي عن نفسه إذا حاول كل واحد منها الوطء والجماع {وَغَلَّقَتِ الأبواب} والسبب أن ذلك العمل لا يؤتى به إلا في المواضع المستورة لا سيما إذا كان حراماً، ومع قيام الخوف الشديد وقوله: {وَغَلَّقَتِ الأبواب} أي أغلقتها قال الواحدي: وأصل هذا من قولهم في كل شيء تشبث في شيء فلزمه قد غلق يقال: غلق في الباطل وغلق في غضبه، ومنه غلق الرهن، ثم يعدى بالألف فيقال: أغلق الباب إذا جعله بحيث يعسر فتحه.
قال المفسرون: وإنما جاء غلقت على التكثير لأنها غلقت سبعة أبواب، ثم دعته إلى نفسها. ثم قال تعالى: {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي: هيت لك اسم للفعل نحو: رويداً، وصه، ومه. ومعناه هلم في قول جميع أهل اللغة، وقال الأخفش: {هَيْتَ لَكَ} مفتوحة الهاء والتاء، ويجوز أيضاً كسر التاء ورفعها.
قال الواحدي: قال أبو الفضل المنذري: أفادني ابن التبريزي عن أبي زيد قال: هيت لك بالعبرانية هيالح، أي تعال عربه القرآن، وقال الفراء: إنها لغة لأهل حوران سقطت إلى بكة فتكلموا بها.
قال ابن الأنباري: وهذا وفاق بين لغة قريش وأهل حوران كما اتفقت لغة العرب والروم في القسطاس ولغة العرب والفرس في السجيل ولغة العرب والترك في الغساق ولغة العرب والحبشة في ناشئة الليل.
المسألة الثانية: قرأ نافع وابن عامر في رواية ابن ذكوان {هَيْتَ} بكسر الهاء وفتح التاء، وقرأ ابن كثير {هَيْتَ لَكَ} مثل حيث، وقرأ هشام بن عمار عن أبي عامر {أَحْلَلْنَا لَكَ} بكسر الهاء وهمز الياء وضم التاء مثل جئت من تهيأت لك، والباقون بفتح الهاء وإسكان الياء وفتح التاء، ثم إنه تعالى قال: إن المرأة لما ذكرت هذا الكلام قال يوسف عليه السلام: {مَعَاذَ الله إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ} فقوله: {مَعَاذَ الله} أي أعوذ بالله معاذاً، والضمير في قوله: {أَنَّهُ} للشأن والحديث {رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ} أي ربي وسيدي ومالكي أحسن مثواي حين قال لك: أكرمي مثواه، فلا يليق بالعقل أن أجازيه على ذلك الإحسان بهذه الخيانة القبيحة {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} الذين يجازون الإحسان بالإساءة، وقيل: أراد الزناة لأنهم ظالمون أنفسهم أو لأن عملهم يقتضي وضع الشيء في غير موضعه، وهاهنا سؤالات:
السؤال الأول: أن يوسف عليه السلام كان حراً وما كان عبداً لأحد فقوله: {إِنَّهُ رَبّى} يكون كذباً وذلك ذنب وكبيرة.
والجواب: أنه عليه السلام أجرى هذا الكلام بحسب الظاهر وعلى وفق ما كانوا يعتقدون فيه من كونه عبداً له وأيضاً أنه رباه وأنعم عليه بالوجوه الكثيرة فعنى بكونه رباً له كونه مربياً له، وهذا من باب المعاريض الحسنة، فإن أهل الظاهر يحملونه على كونه رباً له وهو كان يعني به أنه كان مربياً له ومنعماً عليه.
السؤال الثاني: هل يدل قول يوسف عليه السلام: {مَعَاذَ الله} على صحة مذهبنا في القضاء والقدر.
والجواب: أنه يدل عليه دلالة ظاهرة لأن قوله عليه السلام أعوذ بالله معاذاً، طلب من الله أن يعيذه من ذلك العمل، وتلك الإعاذة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل والآلة، وإزاحة الأعذار، وإزالة الموانع وفعل الألطاف، لأن كل ما كان في مقدور الله تعالى من هذا الباب فقد فعله، فيكون ذلك إما طلباً لتحصيل الحاصل، أو طلباً لتحصيل الممتنع وأنه محال فعلمنا أن تلك الإعاذة التي طلبها يوسف من الله تعالى لا معنى لها، إلا أن يخلق فيه داعية جازمة في جانب الطاعة وأن يزيل عن قلبه داعية المعصية، وذلك هو المطلوب، والدليل على أن المراد ما ذكرناه ما نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقع بصره على زينب قال: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك وكان المراد منه تقوية داعية الطاعة، وإزالة داعية المعصية فكذا هاهنا، وكذا قوله عليه السلام: «قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن» فالمراد من الأصبعين داعية الفعل، وداعية الترك وهاتان الداعيتان لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى، وإلا لافتقرت إلى داعية أخرى ولزم التسلسل فثبت أن قول يوسف عليه السلام: {مَعَاذَ الله} من أدل الدلائل على قولنا والله أعلم.
السؤال الثالث: ذكر يوسف عليه السلام في الجواب عن كلامها ثلاثة أشياء: أحدها: قوله: {مَعَاذَ الله} والثاني: قوله تعالى عنه: {إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ} والثالث: قوله: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} فما وجه تعلق بعض هذا الجواب ببعض؟
والجواب: هذا الترتيب في غاية الحسن، وذلك لأن الانقياد لأمر الله تعالى وتكليفه أهم الأشياء لكثرة إنعامه وألطافه في حق العبد فقوله: {مَعَاذَ الله} إشارة إلى أن حق الله تعالى يمنع عن هذا العمل، وأيضاً حقوق الخلق واجبة الرعاية، فلما كان هذا الرجل قد أنعم في حقي يقبح مقابلة إنعامه وإحسانه بالإساءة، وأيضاً صون النفس عن الضرر واجب، وهذه اللذة لذة قليلة يتبعها خزي في الدنيا، وعذاب شديد في الآخرة، واللذة القليلة إذا لزمها ضرر شديد، فالعقل يقتضي تركها والاحتزاز عنها فقوله: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} إشارة إليه، فثبت أن هذه الجوابات الثلاثة مرتبة على أحسن وجوه الترتيب.


{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)}
اعلم أن هذه الآية من المهمات التي يجب الاعتناء بالبحث عنها وفي هذه الآية مسائل:
المسألة الأولى: في أنه عليه السلام هل صدر عنه ذنب أم لا؟ وفي هذه المسألة قولان: الأول: أن يوسف عليه السلام هم بالفاحشة.
قال الواحدي في كتاب البسيط قال المفسرون: الموثوق بعلمهم المرجوع إلى روايتهم هم يوسف أيضاً بهذه المرأة هما صحيحاً وجلس منها مجلس الرجل من المرأة، فلما رأى البرهان من ربه زالت كل شهوة عنه.
قال جعفر الصادق رضي الله عنه بإسناده عن علي عليه السلام أنه قال: طمعت فيه وطمع فيها فكان طمعه فيها أنه هم أن يحل التكة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حل الهميان وجلس منها مجلس الخائن وعنه أيضاً أنها استلقت له وجلس بين رجليها ينزع ثيابه، ثم إن الواحدي طول في كلمات عديمة الفائدة في هذا الباب، وما ذكر آية يحتج بها ولا حديثاً صحيحاً يعول عليه في تصحيح هذه المقالة، وما أمعن النظر في تلك الكلمات العارية عن الفائدة روي أن يوسف عليه السلام لما قال: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} [يوسف: 52] قال له جبريل عليه السلام ولا حين هممت يا يوسف فقال يوسف عند ذلك: {وَمَا أُبَرّئ نَفْسِى} [يوسف: 53] ثم قال والذين أثبتوا هذا العمل ليوسف كانوا أعرف بحقوق الأنبياء عليهم السلام وارتفاع منازلهم عند الله تعالى من الذين نفوا لهم عنه، فهذا خلاصة كلامه في هذا الباب.
والقول الثاني: أن يوسف عليه السلام كان بريئاً عن العمل الباطل، والهم المحرم، وهذا قول المحققين من المفسرين والمتكلمين، وبه نقول وعنه نذب.
واعلم أن الدلائل الدالة على وجوب عصمة الأنبياء عليهم السلام كثيرة، ولقد استقصيناها في سورة البقرة في قصة آدم عليه السلام فلا نعيدها إلا أنا نزيد هاهنا وجوهاً:
فالحجة الأولى: أن الزنا من منكرات الكبائر والخيانة في معرض الأمانة أيضاً من منكرات الذنوب، وأيضاً مقابلة الإحسان العظيم بالإساءة الموجبة للفضيحة التامة والعار الشديد أيضاً من منكرات الذنوب، وأيضاً الصبي إذا تربى في حجر إنسان وبقي مكفي المؤنة مصون العرض من أول صباه إلى زمان شبابه وكما قوته فإقدام هذا الصبي على إيصال أقبح أنواع الإساءة إلى ذلك المنعم المعظم من منكرات الأعمال.
إذا ثبت هذا فنقول: إن هذه المعصية التي نسبوها إلى يوسف عليه السلام كانت موصوفة بجميع هذه الجهات الأربع ومثل هذه المعصية لو نسبت إلى أفسق خلق الله تعالى وأبعدهم عن كل خير لاستنكف منه، فكيف يجوز إسنادها إلى الرسول عليه الصلاة والسلاما المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة. ثم إنه تعالى قال في غير هذه الواقعة: {كذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء والفحشاء} [يوسف: 24] وذلك يدل على أن ماهية السوء والفحشاء مصروفة عنه، ولا شك أن المعصية التي نسبوها إليه أعظم أنواع وأفحش أقسام الفحشاء فكيف يليق برب العالمين أن يشهد في عين هذه الواقعة بكونه بريئاً من السوء مع أنه كان قد أتى بأعظم أنواع السوء والفحشاء. وأيضاً فالآية تدل على قولنا من وجه آخر، وذلك لأنا نقول هب أن هذه الآية لا تدل على نفي هذه المعصية عنه، إلا أنه لا شك أنها تفيد المدح العظيم والثناء البالغ، فلا يليق بحكمة الله تعالى أن يحكى عن إنسان إقدامه على معصية عظيمة ثم إنه يمدحه ويثني عليه بأعظم الدمائح والأثنية عقيب أن حكى عنه ذلك الذنب العظيم، فإن مثاله ما إذا حكى السلطان عن بعض عبيده أقبح الذنوب وأفحش الأعمال ثم إنه يذكره بالمدح العظيم والثناء البالغ عقيبه، فإن ذلك يستنكر جداً فكذا هاهنا والله أعلم.
الثالث: أن الأنبياء عليهم السلام متى صدرت منهم زلة، أو هفوة استعظموا ذلك وأتبعوها بإظهار الندامة والتوبة والتواضع، ولو كان يوسف عليه السلام أقدم هاهنا على هذه الكبيرة المنكرة لكان من المحال أن لا يتبعها بالتوبة والاستغفار ولو أتى بالتوبة لحكى الله تعالى عنه إتيانه بها كما في سائر المواضع وحيث لم يوجد شيء من ذلك علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب ولا معصية.
الرابع: أن كل من كان له تعلق بتلك الواقعة فقد شهد ببراءة يوسف عليه السلام من المعصية.
واعلم أن الذين لهم تعلق بهذه الواقعة يوسف عليه السلام، وتلك المرأة وزوجها، والنسوة والشهود ورب العالمين شهد ببراءته عن الذنب، وإبليس أقر ببراءته أيضاً عن المعصية، وإذا كان الأمر كذلك، فحينئذ لم يبق للمسلم توقف في هذا الباب.
أما بيان أن يوسف عليه السلام ادعى البراءة عن الذنب فهو قوله عليه السلام: {هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى} [يوسف: 26] وقوله عليه السلام: {رَبّ السجن أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ} [يوسف: 33] وأما بيان أن المرأة اعترفت بذلك فلأنها قالت للنسوة: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم} [يوسف: 32] وأيضاً قالت: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ} [يوسف: 51] وأما بيان أن زوج المرأة أقر بذلك، فهو قوله: {إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا واستغفرى لِذَنبِكِ} [يوسف: 28، 29] وأما الشهود فقوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكاذبين} [يوسف: 26] وأما شهادة الله تعالى بذلك فقوله: {كذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء والفحشاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين} [يوسف: 24] فقد شهد الله تعالى في هذه الآية على طهارته أربع مرات: أولها: قوله: {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء} واللام للتأكيد والمبالغة.
والثاني: قوله: {والفحشاء} أي كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء.
والثالث: قوله: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا} مع أنه تعالى قال: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الارض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَماً} [الفرقان: 63] والرابع: قوله: {المخلصين} وفيه قراءتان: تارة باسم الفاعل وأخرى باسم المفعول فوروده باسم الفاعل يدل على كونه آتياً بالطاعات والقربات مع صفة الأخلاص. ووروده باسم المفعول يدل على أن الله تعالى استخلصه لنفسه واصطفاه لحضرته، وعلى كلا الوجهين فإنه من أدل الألفاظ على كونه منزهاً عما أضافوه إليه، وأما بيان أن إبليس أقر بطهارته، فلأنه قال: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين} [ص: 82، 83] فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين ويوسف من المخلصين لقوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين} فكان هذا إقراراً من إبليس بأنه ما أغواه وما أضله عن طريقة الهدى، وعند هذا نقول هؤلاء الجهال الذين نسبوا إلى يوسف عليه السلام هذه الفضيحة إن كانوا من أتباع دين الله تعالى فليقبلوا شهادة الله تعالى على طهارته وإن كانوا من أتباع إبليس وجنوده فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته ولعلهم يقولون كنا في أول الأمر تلامذة إبليس إلى أن تخرجنا عليه فزدنا عليه في السفاهة كما قال الخوارزمي:
وكنت امرأ من جند إبليس فارتقى *** بي الدهر حتى صار إبليس من جندي
فلو مات قبلي كنت أحسن بعده *** طرائق فسق ليس يحسنها بعدي
فثبت بهذه الدلائل أن يوسف عليه السلام برئ عما يقوله هؤلاء الجهال.
وإذا عرفت هذا فنقول: الكلام على ظاهر هذه الآية يقع في مقامين:
المقام الأول: أن نقول لا نسلم أن يوسف عليه السلام هم بها. والدليل عليه: أنه تعالى قال: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ} وجواب {لَوْلاَ} هاهنا مقدم، وهو كما يقال: قد كنت من الهالكين لولا أن فلاناً خلصك، وطعن الزجاج في هذا الجواب من وجهين:
الأول: أن تقديم جواب {لَوْلاَ} شاذ وغير موجود في الكلام الفصيح.
الثاني: أن {لَوْلاَ} يجاب جوابها باللام، فلو كان الأمر على ما ذكرتم لقال: ولقد همت ولهم بها لولا. وذكر غير الزجاج سؤالاً ثالثاً وهو أنه لو لم يوجد الهم لما كان لقوله: {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ} فائدة.
واعلم أن ما ذكره الزجاج بعيد، لأنا نسلم أن تأخير جواب {لَوْلاَ} حسن جائز، إلا أن جوازه لا يمنع من جواز تقديم هذا الجواب، وكيف ونقل عن سيبويه أنه قال: إنهم يقدمون الأهم فالأهم، والذي هم بشأنه أعنى فكان الأمر في جواز التقديم والتأخير مربوطاً بشدة الاهتمام.
وأما تعيين بعض الألفاظ بالمنع فذلك مما لا يليق بالحكمة، وأيضاً ذكر جواب {لَوْلاَ} باللام جائز.
أما هذا لا يدل على أن ذكره بغير اللام لا يجوز، ثم إنا نذكر آية أخرى تدل على فساد قول الزجاج في هذين السؤالين، وهو قوله تعالى: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا} [القصص: 10].
وأما السؤال الثالث: وهو أنه لو لم يوجد الهم لم يبق لقوله: {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ} فائدة. فنقول: بل فيه أعظم الفوائد، وهو بيان أن ترك الهم بها ما كان لعدم رغبته في النساء، وعدم قدرته عليهن بل لأجل أن دلائل دين الله منعته عن ذلك العمل، ثم نقول: إن الذي يدل على أن جواب {لَوْلاَ} ما ذكرناه أن {لَوْلاَ} تستدعي جواباً، وهذا المذكور يصلح جواباً له، فوجب الحكم بكونه جواباً له لا يقال إنا نضمر له جواباً، وترك الجواب كثير في القرآن، لأنا نقول: لا نزاع أنه كثير في القرآن، إلا أن الأصل أن لا يكون محذوفاً. وأيضاً فالجواب إنما يحسن تركه وحذفه إذا حصل في اللفظ ما يدل على تعينه، وهاهنا بتقدير أن يكون الجواب محذوفاً فليس في اللفظ ما يدل على تعين ذلك الجواب، فإن هاهنا أنواعاً من الإضمارات يحسن إضمار كل واحد منها، وليس إضمار بعضها أولى من إضمار الباقي فظهر الفرق. والله أعلم.
المقام الثاني: في الكلام على هذه الآية أن نقول: سلمنا أن الهم قد حصل إلا أنا نقول: إن قوله: {وَهَمَّ بِهَا} لا يمكن حمله على ظاهره لأن تعليق الهم بذات المرأة محال لأن الهم من جنس القصد والقصد لا يتعلق بالذوات الباقية، فثبت أنه لابد من إضمار فعل مخصوص يجعل متعلق ذلك الهم وذلك الفعل غير مذكور فهم زعموا أن ذلك المضمر هو إيقاع الفاحشة بها ونحن نضمر شيئاً آخر يغاير ما ذكروه وبيانه من وجوه:
الأول: المراد أنه عليه السلام هم بدفعها عن نفسه ومنعها عن ذلك القبيح لأن الهم هو القصد، فوجب أن يحمل في حق كل أحد على القصد الذي يليق به، فاللائق بالمرأة القصد إلى تحصيل اللذة والتنعيم والتمتع واللائق بالرسول المبعوث إلى الخلق القصد إلى زجر العاصي عن معصيته وإلى الأمر بالمعروف النهي عن المنكر، يقال: هممت بفلان أي بضربه ودفعه.
فإن قالوا: فعلى هذا التقدير لا يبقى لقوله: {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ} فائدة.
قلنا: بل فيه أعظم الفوائد وبيانه من وجهين:
الأول: أنه تعالى أعلم يوسف عليه السلام أنه لو هم بدفعها لقتلته أو لكانت تأمر الحاضرين بقتله، فأعلمه الله تعالى أن الامتناع من ضربها أولى صوناً للنفس عن الهلاك، والثاني: أنه عليه السلام لو اشتغل بدفعها عن نفسه فربما تعلقت به، فكان يتمزق ثوبه من قدام، وكان في علم الله تعالى أن الشاهد يشهد بأن ثوبه لو تمزق من قدام لكان يوسف هو الخائن، ولو كان ثوبه ممزقاً من خلف لكانت المرأة هي الخائنة، فالله تعالى أعلمه بهذا المعنى، فلا جرم لم يشتغل بدفعها عن نفسه بل ولى هارباً عنها، حتى صارت شهادة الشاهد حجة له على براءته عن المعصية.
الوجه الثاني: في الجواب أن يفسر الهم بالشهوة، وهذا مستعمل في اللغة الشائعة. يقول القائل: فيما لا يشتهيه مايهمني هذا، وفيما يشتهيه هذا أهم الأشياء إلي، فسمى الله تعالى شهوة يوسف عليه السلام هماً، فمعنى الآية: ولقد اشتهته واشتهاها لولا أن رأى برهان ربه لدخل ذلك العمل في الوجود.
الثالث: أن يفسر الهم بحديث النفس، وذلك لأن المرأة الفائقة في الحسن والجمال إذا تزينت وتهيأت للرجل الشاب القوي فلابد وأن يقع هناك بين الحكمة والشهوة الطبيعية وبين النفس والعقل مجاذبات ومنازعات، فتارة تقوى داعية الطبيعة والشهوة وتارة تقوى داعية العقل والحكمة. فالهم عبارة عن جواذب الطبيعة، ورؤية البرهان عبارة عن جواذب العبودية، ومثال ذلك أن الرجل الصالح الصائم في الصيف الصائف، إذا رأى الجلاب المبرد بالثلج فإن طبيعته تحمله على شربه، إلا أن دينه وهداه يمنعه منه، فهذا لا يدل على حصول الذنب، بل كلما كانت هذه الحالة أشد كانت القوة في القيام بلوازم العبودية أكمل، فقد ظهر بحمد الله تعالى صحة هذا القول الذي ذهبنا إليه ولم يبق في يد الواحدي إلا مجرد التصلف وتعديد أسماء المفسرين، ولو كان قد ذكر في تقرير ذلك القول شبهة لأجبنا عنها إلا أنه ما زاد على الرواية عن بعض المفسرين.
واعلم أن بعض الحشوية روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما كذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات» فقلت الأولى أن لا نقبل مثل هذه الأخبار فقار على طريق الاستنكار فإن لم نقبله لزمنا تكذيب الرواة فقلت له: يا مسكين إن قبلناه لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم عليه السلام وإن رددناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة ولا شك أن صون إبراهيم عليه السلام عن الكذب أولى من صون طائفة من المجاهيل عن الكذب.
إذا عرفت هذا الأصل فنقول للواحدي: ومن الذي يضمن لنا أن الذين نقلوا هذا القول عن هؤلاء المفسرين كانوا صادقين أم كاذبين، والله أعلم.
المسألة الثانية: في أن المراد بذلك البرهان ما هو أما المحققون المثبون للعصمة فقد فسروا رؤية البرهان بوجوه:
الأول: أنه حجة الله تعالى في تحريم الزنا والعلم بما على الزاني من العقاب والثاني: أن الله تعالى طهر نفوس الأنبياء عليهم السلام عن الأخلاق الذميمة. بل نقول: إنه تعالى طهر نفوس المتصلين به عنها كما قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33] فالمراد برؤية البرهان هو حصول تلك الأخلاق وتذكير الأحوال الرادعة لهم عن الإقدام على المنكرات.
والثالث: أنه رأى مكتوباً في سقف البيت {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} [الإسراء: 32] والرابع: أنه النبوة المانعة من ارتكاب الفواحش، والدليل عليه أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا لمنع الخلق عن القبائح والفضائح فلو أنهم منعوا الناس عنها، ثم أقدموا على أقبح أنواعها وأفحش أقسامها لدخلوا تحت قوله تعالى: {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3] وأيضاً أن الله تعالى عير اليهود بقوله: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 44] وما يكون عيباً في حق اليهود كيف ينسب إلى الرسول المؤيد بالمعجزات.
وأما الذين نسبوا المعصية إلى يوسف عليه السلام فقد ذكروا في تفسير ذلك البرهان أموراً: الأول: قالوا إن المرأة قامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في زاوية البيت فسترته بثوب فقال يوسف: لم فعلت ذلك؟ قالت: أستحي من إلهي هذا أن يراني على معصية، فقال يوسف: أتستحين من صنم لا يعقل ولا يسمع ولا أستحي من إلهي القائم على كل نفس بما كسبت فوالله لا أفعل ذلك أبداً قالوا: فهذا هو البرهان.
الثاني: نقلوا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه تمثل له يعقوب فرآه عاضاً على أصابعه ويقول له: أتعمل عمل الفجار وأنت مكتوب في زمرة الأنبياء فاستحى منه.
قال وهو قول عكرمة ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك ومقاتل وابن سيرين قال سعيد بن جبير: تمثل له يعقوب فضرب في صدره فخرجت شهوته من أنامله.
والثالث: قالوا إنه سمع في الهواء قائلاً يقول يا ابن يعقوب لا تكن كالطير يكون له ريش فإذا زنا ذهب ريشه.
والرابع: نقلوا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يوسف عليه السلام لم ينزجر برؤية صورة يعقوب حتى ركضه جبريل عليه السلام فلم يبق فيه شيء من الشهوة إلا خرج، ولما نقل الواحدي هذه الروايات تصلف وقال: هذا الذي ذكرناه قول أئمة التفسير الذين أخذوا التأويل عمن شاهد التنزيل فيقال له: إنك لا تأتينا ألبتة إلا بهذه التصلفات التي لا فائدة فيها فأين هذا من الحجة والدليل، وأيضاً فإن ترادف الدلائل على الشيء الواحد جائز، وأنه عليه الصلاة والسلام كان ممتنعاً عن الزنا بحسب الدلائل الأصلية، فلما انضاف إليها هذه الزواجر قوي الانزجار وكمل الاحتراز والعجب أنهم نقلوا أن جرواً دخل حجرة النبي صلى الله عليه وسلم وبقي هناك بغير عمله قالوا: فامتنع جبريل عليه السلام من الدخول عليه أربعين يوماً، وهاهنا زعموا أن يوسف عليه السلام حال اشتغاله بالفاحشة ذهب إليه جبريل عليه السلام، والعجب أنهم زعموا أنه لم يمتنع عن ذلك العمل بسبب حضور جبريل عليه السلام، ولو أن أفسق الخلق وأكفرهم كان مشتغلاً بفاحشة فإذا دخل عليه رجل على زي الصالحين استحيا منه وفر وترك ذلك العمل، وهاهنا أنه رأى يعقوب عليه السلام عض على أنامله فلم يلتفت إليه، ثم إن جبريل عليه السلام على جلالة قدره دخل عليه فلم يمتنع أيضاً عن ذلك القبيح بسبب حضوره حتى احتاج جبريل عليه السلام إلى أن يركضه على ظهره فنسأل الله أن يصوننا عن الغي في الدين، والخذلان في طلب اليقين فهذا هو الكلام المخلص في هذه المسألة والله أعلم.
المسألة الثالثة: في الفرق بين السوء والفحشاء وفيه وجوه:
الأول: أن السوء جناية اليد والفحشاء هو الزنا.
الثاني: السوء مقدمات الفاحشة من القبلة والنظر بالشهوة والفحشاء هو الزنا.
أما قوله: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين} أي الذين أخلصوا دينهم لله تعالى ومن فتح اللام أراد الذين خلصهم الله من الأسواء، ويحتمل أن يكون المراد أنه من ذرية إبراهيم عليه السلام الذي قال الله فيهم: {إِنَّا أخلصناهم بِخَالِصَةٍ} [ص: 46].
المسألة الرابعة: قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو {المخلصين} بكسر اللام في جميع القرآن والباقون بفتح اللام.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8